“عدت إلى البيت لأجد جدّتي جالسة وصينية الشاي أمامها كالعادة، لكنَّها كانت تبكي بحرقة. سألتها مستفسراً:
ـ شْبيكي؟
ـ تعال وشوف. طلع هسّه ناطق من وزارة الداخلية وقال "على المواطنين التبرُّع بأعينهم دعماً للمجهود الحربيّ"، وقال همّينه إِنّو المدارس رَحْيسَوَّوها مراكز يجمعون بِيها عيون الناس والكِلّ لازم يروحون يوقَفون سِرَه... هسّه ذهب إِفتهمنا وانطينا... فلوس، هم قِلْنَا مَيْخالِف، بَسْ عيون الناس؟ هاي شيسَمَوَّها يعني؟ بالعمر وبالزمان! اللَّه ياخِذِهم كلتّم! هذا شلون زمان أسود!
ظننت أنّ الخرف والخوف كانا قد تسلَّلا إلى رأسها وأخذا يعبثان به. لكن المذيع ظهر على الشاشة ليكرِّر تصريح الناطق العسكريّ:
ـ يا جماهير شعبنا العظيم. لقد رويتم تراب الوطن بدمائكم الزكية وأنتم تسطِّرون أروع الملاحم في معركتنا الخالدة ضدّ العدو الحاقد. لم تبخلوا أبداً بالنفس ولا بالنفيس. وتسارعت الماجدات يتبرَّعن بالذهب لدعم اقتصادنا في ساعات العوز.. وها هو الوطن الحبيب يهيب بكم أن تظهروا للأعداء والخونة بطولتكم الأسطورية وتفانيكم اللامحدود و...
هه! كيف نسيت أنَّنا نعيش في احتفال عبث دائمي منذ عقود يشرف عليه حزب العبث نفسه! وأنّ كلّ شيء ممكن! تهالكت على الكنبة بجانب جدّتي لأجد أنّ عناوين الجرائد اليومية التي كانت تشتريها لي كانت هي الأخرى بلا نقاط، وأنّ صور الناس الذين كانوا على صفحاتها بدون عيون. قلبت كلّ الصفحات. أصابني رعب وخرجت أعدو في الشارع متجاهلاً صياح جدّتي التي ركضت ورائي إلى الباب وتحذيرها لي بأن أظلّ في البيت وألاّ أتركها لوحدها.
كانت كلّ العلامات والإعلانات وحتّى لوحات السيّارات بلا نقاط. رأيت طوابير الناس تتشكَّل أمام مدرسة الطليعة الابتدائية القريبة من بيتنا، والتي تحوَّلت في بحر دقائق إلى مركز للتبرُّع بالعيون. ومما زاد في غضبي أنّ الكلّ كان يضحك ويهلِّل وكان بعضهم يغنِّي: "كُل شي إِيدِك لِمْسِتَه، عيون أهَلْنَه باسِتَه! يوم الْجيتْنَه... يا رَيِّسْنَه لْبيتْنه". تصاعدت أصوات الضحك والزغاريد، وأخذ أناس لا أعرفهم يسحبونني إلى الطابور. كان أحد الرفاق الذين يرتدون الملابس الخاكية يمرّ على الواقفين في الطابور ويسجِّل أعمارهم وألوان عيونهم. شاهدت علي، صديقي من أيّام المدرسة الثانوية، واقفاً قرب نهاية الطابور. لكنَّه كان عابس الوجه لا يشترك في الغناء الجماعيّ ولا يصفِّق مثل الآخرين. أردت أن أسأله عمَّا يحدث. صرخت به مردِّداً اسمه مرّات عديدة لكنّه لم يسمعني. كانت أصوات الزغاريد والتصفيق والضحكات والهتافات تتصاعد بلا هوادة.
* * *
أحفر في الصمت بحثاً عن صمت أعمق أهيله على نفسي. لكنّ الصراخ والأنين يهاجمانني من جديد. ألطّخ الجدران بهذياني وهلوستي علّ الصراخ يبتعد. لكنّه يزداد وضوحاً وتنضمّ إليه ضحكات ساخرة. أضحك أنا أيضاً ثمّ أبكي. رأيت باباً كبيراً أمامي يمتدّ من الأرض وحتّى السقف. مددت يدي لأفتحه فانفتح على مصراعيه! رأيت ممرّاً على جانبيه أشجار عالية وكثيفة أغصانها حروف تتدلّى إلى أسفل على مدّ البصر. وحالما دخلت وبدأت المشي في الممرّ هبَّت ريح عاصفة. سمعت همهمة تصدر من الأغصان ـ الحروف التي أخذت نقاطها تتساقط على الأرض كأوراق خريفية. وكان كلّ حرف يصدر صوته عندما يرتطم بالأرض. سقطت كلّ النقاط وظلَّت الحروف ـ الأغصان جرداء. هدأت الريح وخيَّم الصمت لثوان. بدأ لون النقاط بعدها يتحوَّل من الأسود إلى الأخضر الغامق ثمّ الأخضر الفاتح. ثمّ بدأت النقاط الخضراء تتحرّك بصورة لولبية على أرض الممرّ وإذا بها تتحوّل إلى جراد يطير ويدور ويقفز في كلّ مكان. ثمّ أخذ الجراد يقفز نحو الأغصان التي جاء منها ويقضمها بشراهة. تآكلت الأشجار بسرعة ولم يبق منها شيء. هبّت الريح العاصفة ثانية وأعادتني إلى مكاني بعد أن صفقت الباب الذي اختفى هو الآخر. لكنّ صوت الجراد ظلّ يغتال الصمت.
* * *
سمعت صوت الباب يفتح في الظلام. انسلّ الألف من الباب متبختراً وكان يشعّ بضوءٍ بنفسجيّ ساحر أضاء ليلي. وقف أمامي وخلع الهمزة التي كان يرتديها على رأسه كقبّعة. رماها خلفه فارتطمت بالجدار الذي تحوّل فجأةً إلى مرآة كبيرة. انحنى أمامي باحترام ثمّ أشار إلى الباء، الذي كان قد أطلّ برأسه، بالدخول. دخل الباء ووراءه التاء والثاء. تخلَّصت من نقاطها بعد أن انحنت أمامي هي الأخرى. كان كلّ حرف ينظر بعدها إلى نفسه في المرايا ويضحك، ثمّ يبدأ بالرقص والقفز والدوران. دخلت الحروف تباعاً.. الجيم والحاء والخاء، ثمّ الدال والذال والراء والزاي والسين والشين. تصاعدت الضحكات وتساقطت النقاط تباعاً. وبدأت الحروف التي لم تكن تحمل نقاطاً بحمل النقاط من الأرض ووضعها في عروتها أو على رأسها أو تحتها ثم النظر إلى المرآة. وراحت أخرى تشاكس أخواتها فتسرق النقاط منها قبل أن تخلعها. سرق السين نقاط الشين وضحك بصوت عال ثمّ وضع سبابته على فمه وهو يقول: "ششششششش". اللام التقط همزة الألف وبدأ يصرخ "كاف أنا". الهاء والواو وقفا في الزاوية يضحكان. الميم نام على بطنه ورفع رأسه واعتمر نقطتين التقطهما من الأرض. تصاعدت ضحكات شبقة وتراقصت الحروف في كلّ مكان، تواقع بعضها بعضاً بأوضاع مختلفة ومحظورة. ثمّ انكسرت المرآة وداهم الحفلة جنود بدأوا بإطلاق نيران رشاشاتهم نحو الحروف التي خرّت ساقطة. واستيقظت لأجد نفسي هنا(ك).
[بمناسبة صدور الطبعة الجديدة من رواية "إعجام" عن دار الجمل تعيد "جدلية" نشر مقاطع من الرواية بالإتفاق مع الناشر]